فصل: تفسير الآيات (1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة قريش:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [1- 4].
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ} قال ابن هشام: إيلاف قريش إلفُهم الخروجَ إلى الشام في تجارتهم. وكانت لهم خرجَتان: خرْجة في الشتاء وخرجة في الصيف. قال: أخبرني أبو زيد الأنصاري أن العرب تقول: ألفت الشيء إلفاً، وآلفته إيلافاً، في معنى واحد، وأنشدني لذي الرمة:
من المُؤْلفات الرمْل إدماءُ حرةٌ ** شُعاعُ الضُّحى في لونها يتَوَضَّحُ

والإيلاف أيضاً أن يكون للإنسان ألف من الإبل أو البقر أو الغنم أو غير ذلك، ويقال: آلف فلان إيلافاً، قال الكميت بن زيد:
بِعَامٍ يقول له المُؤْلِفُو ** ن هذا المُعيمُ لنا المُرْجِلُ

والمعيم العام الذي قل فيه اللبن. والإيلاف أيضاً أن يصير القوم ألفاً يقال: آلف القوم إيلافاً. قال الكميت:
وآل مُزَيْقيَاءَ غداةَ لاقَوْا ** بني سعد بن ضَبَّةَ مُؤْلِفينا

والإيلاف أيضاً أن يُؤلف الشيء فيألفه ويلزمه، يقال: آلفته إياهُ إيلافاً. والإيلاف أيضاً أن تصيّر ما دون الألف ألفاً، يقال: آلفته إيلافاً. انتهى. ولورود الإيلاف بهذه المعاني، ظهر سر إبداله بالمقيد منه بعد إطلاقه، مع ما في الإبهام، ثم التفسير من التفخيم والتقرير. روى ابن جرير عن عكرمة قال: كانت قريش قد ألفوا بصرى واليمن، يختلفون إلى هذه في الشتاء وإلى تلك في الصيف. وعن ابن زيد قال: كانت لهم رحلتان: الصيف إلى الشام والشتاء إلى اليمن في التجارة، إذا كان الشتاء امتنع الشام منهم لمكان البرد. وكانت رحلتهم في الشتاء إلى اليمن.
وعن ابن عباس قال: كانوا يُشتون بمكة ويصيِّفون بالطائف. والأكثرون على الأول. واللام في قول {لِإِيلَافِ} متعلق بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أي: فليعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين. ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط؛ إذ المعنى: أن نِعم الله تعالى عليهم غير محصورة، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة. والبيت هو الكعبة المشرفة {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي: مما يخاف منه من لم يكن من أهل الحرم من الغارات والحروب والقتال والأمور التي كانت العرب يخاف بعضها بعضاً، فأمنوا من ذلك لمكان الحرم وقرأ {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، ونظيره أيضاً قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].
تنبيه:
زعم بعض الناس أن اللام في {لِإِيلَافِ} متعلق بما قبله، أي: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش. قال الشهاب: وعلى هذا لابد من تأويله، والمعنى: أهلكهم ولم يسلط على أهل حرمه ليبقوا على ما كانوا عليه، أو أهلك من قصدهم ليعتبر الناس ولا يجترئ عليهم أحد، فيتم لهم الأمن في الإقامة والسفر. أو هي لام العاقبة. انتهى.
ولا يخفى ما فيه من التكلف، ولذا قال ابن جرير في رده: وأما القول الذي قاله من حكينا قوله أنه من صلة قوله:
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} فإن ذلك لو كان كذلك لوجب أن يكون {لِإِيلَافِ} بعض {أَلَمْ تَرَ}، وأن لا تكون سورة منفصلة من {أَلَمْ تَرَ}، وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامتان، كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى، ما يبين عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك. ولو كان قوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} من صلة قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} لم تكن {أَلَمْ تَرَ} تامة حتى توصل بقوله: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} لأن الكلام لا يتم إلا بانقضاء الخبر الذي ذكر. انتهى.

.سورة الماعون:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 7):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [1- 7].
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} أي: بثواب الله وعقابه، فلا يطيعه في أمره ونهيه، قال أبو السعود: استفهام أريد به تشويق السامع إلى معرفة من سيق له الكلام والتعجيب منه. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل عاقل. والرؤية بمعنى العلم.
والفاء في قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} جواب شرط محذوف، على أن ذلك مبتدأ والموصول خبره، والمعنى: هل عرفت الذي يكذب بالجزاء أو بالإسلام، أن لم تعرفه أو إن أردت أن تعرفه فهو الذي يدفع اليتيم دفعاً عنيفاً ويزجره زجراً قبيحاً. يقال: دفعت فلاناً عن حقه: دفعت عنه وظلمته.
{وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي: لا يحث غيره من ذوي اليسار على إطعام المحتاج وسدّ خلته، بل يبخل بسعيه عند الأغنياء لإغاثة البؤساء.
قال الشهاب: إن كان الطعام بمعنى الإطعام- كما قاله الراغب- فهو ظاهر، وإلا ففيه مضاف مقدر، أي: بذل طعام المسكين. واختياره على الإطعام للإشعار بأنه كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله:
{فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24- 25]، فهو بيان لشدة الاستحقاق. وفيه إشارة للنهي عن الامتنان.
قال أبو السعود: وإذا كان حال من ترك حث غيره على ما يذكر، فما ظنك بحال من ترك ذلك مع القدرة؟
قال الزمخشري: جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف، يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد، لخشي الله تعالى وعقابه، ولم يقدم على ذلك، فحين أقدم عليه علم أنه مكذب، فما أشده من كلام! وما أخوفه من مقام! وما أبلغه في التحذير من المعصية وإنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين.
وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} قال ابن جرير: أي: لاهُون يتغافلون عنها وذلك باللهو عنها والتشاغل بغيرها، وتضييعها أحياناً وتضييع وقتها أخرى. وقال القاشانيّ: أي: فويل لهم، أي: للموصوفين بهذه الصفات، من دعِّ اليتيم وعدم الحث على طعام المسكين الذي إن صلَّوا غفلوا عن صلاتهم لاحتجابهم عن حقيقتها بجهلهم وعدم حضورهم. والمصلين من باب وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بأن أشرف أفعالهم وصور حسناتهم سيئات وذنوب، لعدم ما هي به معتبرة من الحضور والإخلاص، وأورد على صيغة الجمع لأن المراد بالذي يكذب هو الجنس.
{الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} أي: يراؤون الناس بصلاتهم إذا صلوا لأنهم لا يصلون رغبة في ثواب، ولا رهبة من عقاب، وإنما يصلونها ليراهم المؤمنون فيظنوهم منهم فيكفوا عنهم. وأصل المراءاة أن ترى غيرك ويراك، أريد به العمل عند الناس ليثنوا عليهم، أوضحه الشهاب.
{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أي: ما يعان به الخلق ويصرف في معونتهم من الأموال والأمتعة وكل ما ينتفع به، لكون الجهل حاكماً عليهم بالاستئثار بالمنافع وحرمانهم عن النظر التوحيدي وعدم اعتقادهم بالجزاء، فلا محبة لهم للحق للركون إلى العالم الفاني، ولا عدالة في أنفسهم للاتصاف بالرذائل والبعد عن الفضائل، فلا يعاونون أحداً فلن يفلحوا أبداً، قاله القاشاني.
تنبيه:
المعني بهذه الآيات أولاً وبالذات المنافقون في عهد النبوة، ويدخل فيها ثانياً وبالعرض كل من وجد فيهم تلك الخلال الذميمة اعتباراً بالعموم، فالسورة مدنية ونظيرها في المنافقين قوله تعالى: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142]، ولذا قال ابن عباس فيما رواه ابن جرير: هم المنافقون كانوا يراؤون الناس بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العارية بغضاً لهم، وهو الماعون.

.سورة الكوثر:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [1- 3].
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: الخير الكثير من القرآن والحكمة والنبوة والدين الحقّ والهدى وما فيه من سعادة الدارين. روى ابن جرير عن أبي بشر قال: سألت سعيد بن جبير عن الكوثر، فقال: هو الخير الكثير الذي آتاه الله إياه، فقلت لسعيد: إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة؟ فقال: هو من الخير الذي أعطاه الله إياه.
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قال الإمام: أي: فاجعل صلاتك لربك وحده، وانحر ذبيحتك مما هو نُسك لك لله وحده، فإنه هو مربيك ومسبغ نعمه عليك دون سواه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162- 163] {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} قال ابن جرير: أي: مبغضك يا محمد، وعدوك هو الأبتر، يعني الأقل الأذل المنقطع دابره الذي لا عقب له.
روى ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له. فإذا هلك انقطع ذكره، فأنزل الله هذه السورة. وعن عطاء قال: نزلت في أبي لهب، وذلك حين مات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال: بُتِر محمد الليلة. فأنزل الله في ذلك السورةَ. وقال شمر بن عطية: نزلت في عقبة بن أبي معيط. قال ابن كثير: والآية تعم جميع من اتصف بذلك، ممن ذكر وغيرهم.
وقال الإمام: كان المستهزئون من قريش كالعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وأبي لهب وأمثالهم، إذا رأوا أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم يموتون، يقولون: بتر محمد، أي: لم يبق له ذكر في أولاده من بعده، ويعدون ذلك عيباً يلمزونه به وينفرون به الناس من أتباعه، وكانوا إذا رأوا ضعف المسلمين وفقرهم وقلتهم يستخفون بهم ويهونون أمرهم، ويعدّون ذلك مغمزاً في الدين، ويأخذون القلة والضعف دليلاً على أن الدين ليس بحق، ولو كان حقاً لنشأ مع الغنى والقوة شأن السفهاء مع الحق في كل زمان أو مكان غلب فيه الجهل. وكان المنافقون إذا رأوا ما فيه المؤمنون من الشدة والبأساء يمنّون أنفسهم بغلبة إخوانهم القدماء من الجاحدين، وينتظرون السوء بالمسلمين لقلة عددهم وخلوّ أيديهم من المال. وكان الضعفاء من حديثي العهد بالإسلام من المؤمنين، تمُرُ بنفوسهم خواطر السوء عندما تشتد عليهم حلقات الضيق، فأراد الله سبحانه أن يمحص من نفوس هؤلاء، ويبكّت الآخرين، ليؤكد له الوعد بأنه هو الفائز وأن متبعه هو الظافر، وإن عدوه هو الخائب الأبتر الذي يُمحى ذِكره ويعفى أثره.
تنبيه:
لما روي من سبب نزول هذه السورة مما رويناه، ذهب إمام اللغة ابن جنّي إلى تأويل الكوثر بالذرية الكثيرة، وهو معنى بديع فيه مناسبة لسبب النزول.
قال ابن جنّي في شرح ديوان المتنبي في قوله يمدح طاهر بن الحسين العلوّي:
وأبهرُ آيات التهامي أنهُ أبوك ** وأجْدَى ما لكم من منَاقبِ

وفي جملة ما أملاه عليّ أبو الفضل العروضي: أن قريشاً وأعداء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: إن محمداً أبتر لا عقب له، فإذا مات استرحنا منه، فأنزل الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: العدد الكثير، ولست الأبتر الذي قالوه. ومراده بالعدد الكثير الذرية وهو أولاد فاطمة. قال العروضي: فإن قيل: الْإِنْسَاْن بالأبناء والآباء والأمهات. قلنا: هذا خلاف حكم الله تعالى فإنه قد قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله {وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام: 84]، فجعل عيسى من أولاد إبراهيم ومن ذريته، ولا خلاف في أنه لم يكن لعيسى أب. انتهى.
وقد بسطنا أدلة انتساب الأسباط إلى أجدادهم في كتاب شرف الأسباط بما لا مزيد عليه، فراجعه.

.سورة الكافرون:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 6):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [1- 6].
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} أي: المشركون الجاحدون للحق، الذي وضحت حجتهُ واتضحت محجتهُ.
{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي: من الآلهة والأوثان الآن.
{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: الآن.
{وَلَا أَنَا عَابِدٌ} أي: فيما أستقبل {مَّا عَبَدتُّمْ} أي: فيما مضى.
{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ} أي: فيما تستقبلون أبداً {مَا أَعْبُدُ} أي: فيما أستقبل {مَّا عَبَدتُّمْ} أي: الآن وفيما أستقبل، هكذا فسره الإمام ابن جرير رحمه الله، ثم قال: وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبداً، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذين طمعوا فيه وحدَّثوا به أنفسهم. وإن ذلك الغير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات. وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم مع الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبداً، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا، إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعضٌ قبل ذلك كافراً. ثم روى رحمه الله عن ابن إسحاق عن سعيد بن مينا قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! هلم، فلنعبد ما تعبد وتعبدَ ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا واخذ منه بحظك، فأنزل الله {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورة، وفي رواية: وأنزل الله في ذلك هذه السورة، وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 64- 66]، انتهى.
وقيل: الجملتان الأخيرتان لنفي العبادة حالاً كما أن الأوليين لنفسها استقبالاً، قال أبو السعود: وإنما لم يقل: ما عبدتُ؛ ليوافق ما عَبَدتُّم؛ لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام وهو عليه السلام لم يكن حينئذ موسوماً بعبادة الله تعالى. وإيثار ما في {مَا أَعْبُدُ} على من؛ لأن المراد هو الوصف، كأنه قيل:
{مَا أَعْبُدُ} من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته. وقيل: أن {مَا} مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي. وقيل: الأوليان بمعنى الذي، والأخريان مصدريتان.
وقيل: قوله تعالى: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} تأكيد لقوله تعالى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وقوله تعالى {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ثانياً تأكيداً لمثله المذكور أولاً. انتهى.
ونقل ابن كثير عن الإمام ابن تيمية أن المراد بقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} نفي الفعل، لأنها جملة فعلية {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} نفي قبوله لذلك بالكلية، لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلاً لذلك، ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضاً، وهو قول حسن.
واختار الإمام كون {مَّا} في الأوليين موصولة وفيما بعدها مصدرية، قال: فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود، ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة، فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة؛ لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزه عن الند والشفيع، المتعالي عن الظهور في شخص معين، الباسط فضلَه لكل من أخلص له، الآخذ قهره بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه، والذي تعبدونه على خلاف ذلك. وعبادتي مخلصة لله وحده، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى، فلا تسمى على الحقيقة عبادة. فأين هي من عبادتي؟ وقوله تعالى: {لَكُمْ دِينَكُمْ} تقرير لقوله تعالى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وقوله تعالى: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} كما أن قوله تعالى: {وَلِيَ دِينِ} تقرير لقوله تعالى: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} والمعنى أن دينكم الذي هو الإشراك مقصورٌ على الحصول لكم، لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضاً، كما تطمعون فيه، فإن ذلك من المحالات، وأن ديني الذي هو التوحيد، مقصور على الحصول لي، لا يتجاوزه إلى الحصول لكم، فلا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه.
تنبيه:
قال ابن كثير استدل الإمام الشافعيّ وغيره بهذه الآية الكريمة {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} على أن الكفر كلُّه ملة واحدة فورّث اليهود من النصارى وبالعكس، إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به؛ لأن الأديان- ما عدا الإسلام- كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود، وبالعكس؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يتوارث أهل ملتين شتَّى».